انتهج الإمام الحسن العسكري نهج آبائه للمحافظة على شيعته وأتباعه الذين يمثّلون الجماعة الصالحة في المجتمع الاسلامي ، وقد شدّد الإمام العسكري دعوته إلى الكتمان وعدم الإذاعة والحذر في التعامل مع الآخرين ، والتشدد في نقل الأخبار والوصايا عنه ونقل أوامره الى أصحابه ونقل أخبارهم إليه ، فإنّ أتباعه قد انتشروا في أقطار الدولة الاسلامية في عصره(عليه السلام) بعد أن أخذ التشيع طابع المعارضة واتسعت دائرته تحت راية أهل البيت(عليهم السلام) وكثيراً ما كانت تصدر عنه (عليه السلام) التحذيرات المهمة لهم تجاه الفتن والابتلاءات المستقبلية تجنيباً لهم من الوقوع في شرك السلطة وحفظاً لهم من مكائدها .
فعن محمد بن عبد العزيز البلخي قال : أصبحت يوماً فجلست في شارع الغنم فإذا بأبي محمّد أقبل من منزله يريد دار العامّة ، فقلت في نفسي : ترى إن صحتُ: أيّها الناس هذا حجة الله عليكم فاعرفوه ، يقتلوني ؟ فلمّا دنا منّي أومأ بإصبعه السبّابة على فيه: أن اسكت ، ورأيته تلك الليلة يقول : إنما هو الكتمان أو القتل ، فاتّق الله على نفسك .
وقد دلّ هذا النص على اُمور مهمّة هي :
1 ـ كشف الإمام (عليه السلام) عن نيّة أحد أصحابه لمعرفته بما في دخيلة نفسه ، ومنعه من التحدث بما عزم عليه من إظهار أمر الإمام (عليه السلام) .
2 ـ كشف عن حراجة الظروف التي كانت تحيط بالإمام (عليه السلام) وأصحابه ومحاولة السلطة للتعرف عليهم لتطويق عملهم .
3 ـ إن النص يظهر لنا استغلال الإمام (عليه السلام) للمناسبات المختلفة لتحذير أصحابه من الإفصاح عن أنفسهموإظهار علاقتهم بالإمام كماسيتضح لنا ذلك من النصوص الآتية .
ونلاحظ أنّ أحد أساليب الإمام (عليه السلام) في عمله المنظم والمحاط بالسرية التامة هو منعه أصحابه من أن يسلّموا عليه أو يشيروا له بيد .
روى علي بن جعفر عن أحد أصحاب الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) فقال : اجتمعنا بالعسكر ـ أي سامراء ـ وقد صرنا لأبي محمد (عليه السلام) يوم ركوبه فخرج توقيعه : لا يسلمنّ عليَّ أحد ، ولا يشير إليّ بيده ، ولا يومئ ، فإنّكم لا تأمنون على أنفسكم .
كما نلاحظ مبادرة الإمام(عليه السلام) الى ابتكار أساليب جديدة في ايصال أوامره ووصاياه الى وكلائه وثقاته وإليك نموذجاً منها:
روى أبو هاشم الجعفري عن داود بن الأسود قال : دعاني سيدي أبومحمد ـ الحسن العسكري (عليه السلام) ـ فدفع لي خشبة ، كأنها رجل باب مدوّرة طويلة ملء الكف فقال (عليه السلام) :
صر بهذه الخشبة إلى العمري فمضيت إلى بعض الطريق فعرض لي سقاء معه بغل ، فزاحمني البغل على الطريق ... فضربت البغل فانشقّت ـ الخشبة ـ فنظرت الى كسرها فاذا فيها كُتب ، فبادرت سريعاً فرددت الخشبة الى كمّي فجعل السقاء يناديني ويشتمني ، ويشتم صاحبي فلمّا دنوت من الدار راجعاً استقبلني عيسى الخادم عند الباب الثاني ، فقال: يقول لك مولاي : لِمَ ضربتَ البغل وكسرت رجل الباب ؟ .
فقلت : ياسيدي لم أعلم ما في رجل الباب ، فقال (عليه السلام) : ولم احتجت أن تعمل عملاً تحتاج أن تعتذر منه . إيّاك بعدها أن تعود إلى مثلها ، وإذا سمعت لنا شأناً فامضِ لسبيلك التي أمرت بها ، وإياك أن تجاوب من يشتمنا ، أو تعرّفه من أنت ، فإننا في بلد سوء ، ومصر سوء وامضِ في طريقك فإنّ أخبارك وأحوالك ترد إلينا فاعلم ذلك.
وفي هذا النص دلالات كثيرة ومهمّة في مجال العمل المنظم ، كما أنّه يعكس السرية التامة في العمل من جهة الإمام وأصحابه المقرّبين من أجل تجاوز ما يثيره الظرف من إشكالات تجاه العاملين ، لذا نجد الإمام (عليه السلام) يمنع رسوله من التعرّض لأيّ أمر يمكن من خلاله أن تكشف هويته وشخصيته وصلته بالإمام (عليه السلام) حتى لو شتمه أحد أو رُبما يُسبّ الإمام (عليه السلام) أمامه ، فعليه أن يغضّ الطرف وكأنه ليس هو المقصود ، ويذهب في مهمّته ، حتى لا يُكشف ولا يتعرّف أحد جلاوزة السلطان على ما يخرج من الإمام (عليه السلام) لوكلائه وثقاته .
وتفيد هذه النصوص وغيرها ان الظروف الصعبة والقاهرة التي عاشها الإمام (عليه السلام) وأصحابه هي التي ألجأته إلى إتخاذ السرية والكتمان الشديد في تعامله مع قواعده الشعبية ، وبالتالي فهي الطريق الأصوب إلى تربية شيعته ومواليه وتهيئة قواعده لعصر الغيبة الصغرى والتي سوف يتم اتصال الشيعة خلالها بالإمام المهديّ (عليه السلام) عن طريق وكيل له ، حيث لا يتيسّر الاتّصال المباشر به ولا يكون الالتقاء به ممكناً وعمليّاً وذلك لما كانت السلطة العباسية قد فرضته من رقابة شديدة على الشيعة لمعرفة محلّ اختفاء الإمام المهديّ(عليه السلام) .)